lundi 17 février 2014

مماذا يخاف المغاربة؟

         
المخزن يرعبهم وذكرى السيبة والجوع تقضان مضجعهم

محمد أحداد
في أكثر شعوب العالم رفاهية ثمة ينابيع للخوف تسري في مفاصل المجتمع وتترعرع في لا وعيه وتتحول في أوقات بعينها إلى «هيستيريا جماعية». إنه شعور غريزي جبل عليه الإنسان، لكن مع تطور وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة، لم يبق الأمر كذلك وتحول الخوف من شعور لا واع يساور الإنسان في لحظات ضعفه وقوته إلى شعور متحكم فيه تصنعه قوى متباينة في المجتمع من بينها الدولة، الراعي الأول للخوف، كما كان يقول المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما. 

وإذا كان من اليسير جدا تبين مخاوف المغاربة في صراعهم الأزلي مع تكوين العائلة وتنشئة الأبناء وضمان العيش الكريم، فإن الصعوبة تكمن في تحديد هذا الخوف وتفسير أسبابه، وتكمن أيضا في معرفة التغيرات التي تطرأ على نوازع الخوف، ذلك أن المواطن الذي كان يخشى المخزن في فترة بعينها لم تعد تهمه «العصا الغليظة» التي أصبحت أكثر نعومة مما مضى، بقدر ما يهمه المعيش اليومي ومدى قدرته على توفير مستلزمات الحياة. 
ثمة مخاوف يومية ترافق المواطن المغربي، منها ما يرتبط بالصحة والتعليم وتدريس الأبناء ومنها ما يرتبط باستتباب الأمن، لكن مع  ذلك، ينبغي الاعتراف أن ثمة مخاوف مركبة وعميقة ورثها من حقب سحيقة خاصة ما يرتبط بـ«المخزن» الذي يظهر أنه عميق في وجدان المغاربة، ومنها أيضا ما يرتبط بالمستقبل وبعض الرؤى الغيبية التي تجعل من الدين منطلقا لها.
في هذا الملف، تستقرئ «المساء» آراء فاعلين مختلفين من المجتمع المغربي، وتستقر في الأخير على إدراج ما يمكن تسميته بسلم الخوف بالمغرب، وما يعتري الفرد المغربي من هواجس تشوش على حاضره وتضبب مستقبله، متوسلة بدراسات سوسيولوجية وآراء  متخصصين في الموضوع.


الأمن..الخوف الداهم
وحدها قضية الصحراء استطاعت أن تؤلف بين الكثير من المتناقضات في السبعينيات من القرن الماضي. أحزاب مدموغة بإيديولوجية اشتراكية تريد الإطاحة بالنظام وتخوض معه صراعات عنيفة، ونظام الحسن الثاني يريد تقليم أظافر معارضيه وإرساء نظام الحكم. فجأة استل القصر ورقة»الإجماع الوطني» بيافطة أمنية بحتة، إذ استطاع الحسن الثاني أن يجمع حول فكرته أشد المعارضين. بعدها قال الراحل عبد الرحيم بوعبيد إن المغاربة ذهبوا إلى الصحراء لأنهم شعب يبتغي التحرر من نير الاستعمار أولا، ثم لأنه يخشى القلاقل الأمنية. 
الكلام أعلاه، ينسحب على الأمن بصفة عامة، لكن الأمن في الشوارع وفي الأحياء وفي المدن، أمر أصبح مخيفا، إذ كشفت دراسة صدرت سنة 2010 أن أكثر من 90 في المائة من المغاربة يخشون من الانفلاتات الأمنية، سيما في المدن الكبرى. الدراسة التي أنجزها معهد مغربي مستقل تؤكد أن ارتفاع نسب الاغتصاب والقتل والتحرش الجنسي يصيب العائلات بالرهاب. من هذا المنطلق، نجد تنامي ظاهرة باتت تستأثر بالاهتمام وهي مرافقة الآباء لأبنائهم إلى المدارس ثم مرافقتهم أيضا في رحلة العودة. إنها ظاهرة تشي إلى أي حد بات المغاربة متوجسين من غياب الأمن، وما يزيد من حدة هذا القلق الأخبار المتواترة عن قصص الاغتصاب وعن التحرش الجنسي والسرقة والتهديد بالسلاح الأبيض وظهور مافيات تسرق كل شيء حتى البشر.


الجوع..الذاكرة أصدق أنباء من الرخاء
يحتفظ المغاربة بذكريات سيئة عن المجاعات، فلا شيء أقسى من رمي الأبناء في البحر خشية موتهم من الجوع، ولا شيء أقسى من أن يبيع المغاربة أبناءهم للنصارى مقابل الحصول على حفنات صغيرة من الشعير. حدث ذلك في المغرب في الماضي القريب وليس البعيد، وإذا كانت أعنف المجاعات التي عرفها المغرب وقعت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إلا أنه في الأربعينيات من القرن الماضي اجتاحت أزمة غذائية غير مسبوقة المغرب وشملت مناطق مختلفة من المغرب، وأدت إلى هلاك عشرات السكان وإصابة المئات بأمراض عديدة. بعض الشيوخ مازالوا يتذكرون هذه السنوات بمرارة. الحسين، الذي دخل إلى نادي الثمانينات منذ ثلاث سنوات يبرز أنه رأى بأم عينيه كيف مات العشرات من أصدقائه ومن أفراد عائلته جوعا، وكيف رأى أيضا العشرات من بني جلدته يتضوعون جوعا أمام تسلسل سنوات الجفاف. 
سعيد ورث من أبيه مدخرات كثيرة: أموال في البنوك وأخرى مخبأة في معطفه، عقارات في مدن متفرقة من المغرب. ظل السؤال دائما يراود سعيد عن الأسباب التي تجعل والده يعيش حالة من التقشف طوال حياته، في الوقت الذي يمتلك أموالا طائلة يمكن أن تضمن له عيشا كريما طوال ما تبقى من حطام عمره. أدرك سعيد بعد مدة أن أباه عايش مرحلة الجوع التي ضربت المغرب في فترات مختلفة، أخبره أباه فيما يشبه اليقين أن»كل الذي ادخره في حياته هو من أجل عائلته، ترقبا لأي مرحلة من الجوع قد تضرب المغرب من جديد». أسر سعيد لـ»المساء» أنه ورث 4 ملايير بين أموال في البنوك وبين عقارات من أبيه، رغم أنه لم يكن يعلم شيئا عن هذه الأصول. 
المغاربة يخشون من الجوع، ويخشون من التشرد، وهي مخاوف وإن اكتست لبوسا جديدا، إلا أنها ذات أصداء قديمة. هنا تتدخل الرواية الشعبية، ويتسرب اللاوعي إلى المغاربة ليعيد سير الذين أبادهم الجوع في العهود الغابرة ويذكر سير الذين رددوا البيت الشعري القاسي:
 وعمت للكبير والصغير... وبعنا الفرش والبسط الغوالي..
ونما بالثياب على الحصير، لقينا من أذاها من لقينا.... وزاحمنا الحمير على الشعير


الصحة والتعليم..خوفان لـ«كارثة» واحدة
لا حديث يعلو هذه الأيام على القطاع الصحي، فبينما كان المغاربة ينتظرون تحسين الخدمات الصحية للمواطنين وتكريس التطبيب المجاني وتخفيض أثمنة الأدوية، انزاح النقاش عن سكته ليقارب مواضيع جانبية لا تهم المواطن في شيء. المواطن في أقصى الجبال وفي عز البرد، لا يهمه أي شيء آخر، لقد أصبحت المستشفيات والأدوية والتداوي كلمات تثير في نفسه الخوف والهلع. موجة الثلج التي اجتاحت بعض المناطق المرتفعة بالمغرب جعلت محمد، وهو فاعل جمعوي، يصرح للجريدة بنبرة يعلوها الكثير من الغضب»السكان هنا في الأطلس الكبير لا يخشون أي شيء غير الموت بالبرد في ظل غياب المستشفيات والمراكز الصحية والأدوية».
كان لافتا خلال تناقل الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة خبر إلغاء مجانية الاستفادة من خدمات الوقاية المدنية، حدوث ما يمكن تسميته بالهيستيريا الجماعية، إذ تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى فضاء حقيقي للسب والشتم والاحتجاج على القرار. لا أحد يعرف إن كان الخبر لا يعدو كونه بالون اختبار للمواطنين، لكنه أثار الكثير من ردود الفعل الغاضبة وعبرت عشرات الجمعيات عن رغبتها في النزول إلى الشارع. ردود الفعل هذه بينت إلى أي درجة يخاف المغاربة من فقدان الخدمات الصحية الموسومة بالهشاشة أصلا.
بالنسبة للتعليم، من الواضح أن الأسر المغربية تبذل قصارى الجهود لتعليم أبنائها، الشيء الذي أدى في السنوات الأخيرة إلى تنامي ظاهرة التعليم الخصوصي، التي يصفها الكثير من المحللين أنها تعبير عن حالة خوف جماعية من تدني مستوى التعليم العمومي، ومن تراجع مستوى تعليم أبنائهم، إنه قبل كل شيء، خوف من المستقبل ومن المجهول، والمجهول عند المغاربة هو مستقبل أبنائهم. أنيسة، أستاذة في التعليم الابتدائي تصرف كل أجرتها في الساعات الإضافية التي تستفيد منها ابنتها في الكثير من المواد: الرياضيات، الفيزياء، العلوم الطبيعية، تقول لـ»المساء» إنه نوع أصيل من الخوف من أن يضيع مستقبل ابنتي أمام أعيني، ومن ثم نتقاسم أعباء الحياة أنا وزوجي لتبديد هذا الخوف».
على هذا الأساس يطرح إسماعيل المنقاري سؤالا يبدو محوريا في هذا الصدد» إن طرح سؤال الأمن الاجتماعي كفيل بإبراز درجة التخوف التي يمكن أن تلم بالمواطن. هل يمكن للتعليم والصحة مثلا في بلادنا في هذه المرحلة تشكيل نفسية متزنة وبعيدة عن الخوف والترقب والتوتر في مجتمع تطغى فيه الفوارق الاجتماعية؟


«قبر الحياة»..الخوف من التشرد
يتناقل المغاربة بشكل يومي عبارة البحث عن قبر»الحياة»، وهي عبارة ترمز للبحث عن السكن خشية التشرد. لقد أصبح حلم جميع العائلات المغربية في اللحظة الراهنة شراء سكن يحفظ كرامة الحياة ويقي العائلات من التشرد، وفي اللاوعي الشعبي يصبح مطلب السكن أكثر إلحاحا. من هنا لاحظ بعض علماء الاجتماع أن الشرط الأساسي الذي يضعه الآباء لتزويج بناتهم يرتبط بالسكن قبل كل شيء، مما يؤشر على وجود تحول عميق في الذهنية المغربية الساعية إلى إيجاد قبر «الحياة». يشرح عمر بنعياش، عالم الاجتماع المغربي مثل هذا التغير بالقول» طبعا هناك من سيقول بأن المغاربة يخافون أيضا من التشرد، أي من عدم امتلاك ما يصطلحون على تسميته بـ «قبر الحياة»، ولعل الدلالة العميقة لامتلاك قبر الحياة هذا هو طلب الستر، مضيفا في هذا  الصدد «وكما لا يخفى على المؤرخين والمحللين الاجتماعيين فإن» ثقافة الستر»هذه لها جذور ضاربة في التاريخ الاجتماعي للمغاربة، هي ما أقترح تسميته بـ «ثقافة التواري» والابتعاد عن الأنظار في حالة العجز والظهور والتباهي في حالة القوة».


المـخــزن .. خـوف مسـتمـر من «سلطة تتجدد ولا تتغير»
مـازال يمتلـك وسـائل أكثر سطـــــــــــوة مما كان يتوفر عليه من قبل


الخوف شعور غريزي ينتاب الإنسان في لحظات ضعفه وفي لحظات قوته، والخوف عند المغاربة لم يكن شعورا مقترنا بأحداث بعينها أو كوارث طبيعية أو حتى هزات سياسية حاصرتهم، بل كان دائما يساورهم، أولا بالنظر إلى الموقع الجغرافي للمغرب المعرض دائما للغزو الأجنبي، وثانيا بسبب الأزمات الغذائية التي عرفها المغرب على مر التاريخ. وتغذى هذا الشعور بظهور عنصر جديد حفر عميقا في وجدان المغاربة وزرع بينهم حالة من التوجس النفسي، ويتعلق الأمر بمفهوم المخزن. 
«المخزن» هذه الكلمة التي استعملت في العهود الغابرة للدلالة على أماكن خزن الحبوب، تحولت فيما بعد إلى ما يشبه الفزاعة المخيفة للسكان في أقاصي المغرب وأدانيه، تحت تأثير الإشاعات وسطوة رجال السلطة، الذين أرادوا فرض هيبة الدولة عبر صناعة هيكل كبير لا يتزحزح، وسرعان ما أصبح المخزن بنية حقيقية ترتبط بالأساس باستعمال القوة و»العصا الغليظة» في حق المعارضين والمنتفضين، حدث ذلك مع منطقة الرحامنة، الصحراء، الريف، وكل مناطق المغرب، وعلم الثوار دروسا لم يعلموها قط في الانضباط. 
التصق المفهوم بأذهان المغاربة وامتزجت الأسطورة بالواقع والحقيقة بالخيال، ليتحول المخزن في نهاية المطاف إلى «بعبع» مخيف يفزع الجميع: رجال السلطة، المواطنون البسطاء، رجال الأعمال والمثقفين. لقد حاول مهندسو العهد الجديد التقليص من الصورة النمطية الملتصقة بالمخيال الشعبي حول المخزن، لكن لم ينجحوا على النحو المطلوب، لأن العنف والقمع الذي مورس في القرن الماضي في حق كل المنتفضين مازال طريا في الأذهان، يأبى النسيان. بعض السوسيولوجيين يقولون إن المقولة القديمة والمأثورة لصاحب كتاب»إمارة المؤمنين « إن المخزن يتجدد ولا يتغير» مازالت مدموغة في الأذهان، خاصة في العالم القروي، كما يذهب إلى ذلك عالم الاجتماع المغربي عبد الرحيم العطري. 
الثابت الآن، أن كلمة المخزن بكل مدلولاتها أصبحت متجدرة في المجتمع المغربي، ولم يعد استعمالها مقتصرا على مجال بعينه، ولا غرابة إذن أن نلفي مصطلحات من قبيل «المخزن الاقتصادي» و«المخزن الرياضي» و«المخزن الحزبي».  يؤكد السوسيولوجيون أنه بالرغم من تراجع بعض الآليات المتصلة بالسطوة التي كانت ملتصقة بالسلطة في القرون الماضية، إلا أن الطقوس المخزنية مازالت حاضرة حتى داخل المؤسسة الملكية، المؤسسة الأولى في البلاد. وإذا كان المخزن تلاءم مع طبيعة المرحلة ولم يعد «مخزنا تقليديا» بالمعنى الأصيل للكلمة، إلا أنه مازال يمتلك وسائل أكثر سطوة مما كان يتوفر عليه من قبل. الإعلام السمعي البصري والتعليم هما الركيزتان الأساسيتان اللتان يستند إليهما المخزن بثوبه الجديد، وهي وسائل رمزية باتت مقرونة بالعهد الجديد. 
صحيح أن القيمين على السلطة في المغرب حاولوا إقبار هدا المفهوم، لكنه لم يغادر يوما المخيال الشعبي للسكان بجميع فئاتهم، وحتى الطبقات التي توصف بالمثقفة تتوجس منه، ولذلك، ظهر مفهوم جديد طفا على الساحة السياسية المغربية، ويتعلق الأمر بتدجين النخب، وتدجين النخب يعني في مقاصده، كما يؤكد المفكر الفرنسي بيير بورديو، عدم قدرة المثقفين على مواجهة السلطة وبالتالي الارتماء في حضنها، لأنها تعتقد أن القوى المضادة تتوفر على كل الوسائل لمحاصرتها. 
بالواضح، بنية المخزن في المغرب تخيف شرائح واسعة، سيما التي عايشت مرحلة مغرب ما بعد الاستقلال، بكل الفظاعات وسنوات الرصاص التي ابتلعت مئات المغاربة. يقول «سي حسن»، الذي عذب  ابنه واعتقل أكثر من خمس مرات إن مبعث هذا الخوف يعود بدرجة أولى إلى الارتدادات النفسية والجروح الغائرة التي خلفتها أوقات سوداء من تاريخ المغرب في نفوس أبنائه، إذ كان يأكل الجميع في حقبة بعينها» لا أحد يمكن أن ينكر أن الأمر تغير كثيرا، ولن ينكر إلا جاحد أن المغرب تقدم خطوات كبيرة إلى الأمام، لكن الذاكرة أقسى ولا نتحكم فيها» يشرح سي حسن بكثير من السلاسة اللغوية.
في كتابه»السنة والإصلاح» يؤكد عبد الله العروي أن الذاكرة في نهاية المطاف تشويش على الزمن، وهذا بالضبط ما يجعل المخزن في المغرب مخيفا يبعث على الوجل ليس في نفوس كل المغاربة لكن في نفوس بعضهم على الأقل.


الكوارث الطبيعية..الخوف من الفناء
سلسلة من الكوارث الطبيعية التي ضربت المغرب، تركت ندوبا عميقة في المخيال الجمعي للمغاربة، بشكل أصبح معه ذكر الكوارث الطبيعية، رديفا لعبارة موغلة في الحزن هي «الله يحد الباس». خوف المغاربة من الكوارث الطبيعية راجع أساسا إلى الدمار الكبير الذي تخلفه  وراءها كما حدث في زلزالي أكادير والحسيمة. اليوم،  وفي ظل التغيرات المناخية التي يعرفها العالم، صارت  المخاوف التي تستبد  بالمغاربة تتجاوز  الزلازل والفيضانات إلى أخطار جديدة أصبحت تحدق بهم، فقبل أسابيع تسبب مد بحري في السواحل المتواجدة ما بين أكادير وسلا في خسائر مادية كبيرة، مرفوقة بحالة كبيرة من الهلع وتناسل الإشاعات، حول تسونامي أقوى وأشد بطشا سيحل ضيفا ثقيلا على المملكة. 
انتشرت الإشاعات كما تنتشر النار في الهشيم، وساد الكثير من الترقب لدى السكان المحاذين للمناطق الساحلية مخافة أن يسوي «التسونامي» منازلهم وأغراضهم، سيما الصور التي تناقلتها القنوات العالمية للموجات العاتية التي ضربت جنوب شرق آسيا، خاصة في جزيرة «سومطرة الإندونيسية التي مازالت تحاصرهم.
يوسف، طالب جامعي من أكادير يحكي لـ»المساء» عن ردة فعله، عندما طالع في إحدى الجرائد الأسبوعية مطلع سنة 2008، خبرا تبين فيما بعد أنه لا يعدو أن يكون إثارة مجانية، يتحدث فيه عن زلزال كبير يحتمل أن يضرب مدينته خلال تلك السنة، « كنت على وشك تناول الغذاء عندما طالعت ذلك الخبر، لكنني من شدة الهلع والاضطراب لم أستطع أن أتناول ولو لقمة واحدة منه، بعدما استقرت في حلقي غصة كأنها نصل معقوف»، يوسف، حاله مثل الملايين من المغاربة الذين يعيشون رهابا من الزلازل، يبرر خوفه بأن «صور الدمار الذي عم أجزاء من مدينة الحسيمة وضواحيها بعد زلزال 2004، والجثث  التي تم انتشالها من تحت الأنقاض».  يقص يوسف شريط الذكريات، ويسترسل قائلا» كانت أول ليلة أبيتها في العراء مع عائلتي في مدينة الحسيمة، مما شكل لي عقدة نفسية كبيرة من الزلازل «. الأقدار قادت بعدها يوسف إلى مدينة أكادير ليستقر فيها، وهي التي تحتفظ بذكريات سيئة عن الزلزال الذي دك المدينة عن آخرها  «.
 لا أحد يستطيع التنبؤ بالزلازل ومتى تميد الأرض تحت أرجل سكانها، يقول يوسف» وهذا بالضبط مصدر خوفي الذي لا يزول ولا يفارقني، وهو الخوف ذاته الذي يساور عائلتي كذلك». بعد أيام فقط تحل الذكرى العاشرة لزلزال الحسيمة الذي راح ضحيته أكثر من 600 قتيل وآلاف الجرحى، وتدمير قرى بكاملها، وهي الذكرى التي مازال السكان يستحضرونها بالكثير من التوجس والخوف الممزوجان بالحذر، فحين «ترقص» الأرض بالمدينة الساحلية، كأنما دبيبها يكون في الروح لا في الجسد. 
غير قليل من الخرافة وكثير من الحساب يفيد بأن الزلزال في الحسيمة يحدث كل عشر سنوات، فبعد أن اهتزت المدينة الصغيرة سنة 1994، حدث الشيء نفسه سنة 2004، وبالتالي ليس من المستبعد أن يحل الزلزال ضيفا ثقيلا خلال هذه السنة على المدينة حسب  بعض السكان. بطبيعة الحال، لا يمكن للعلم والعقل أن يتوصل إلى مثل هذه المقولات، لكن الحكايات الشعبية ممزوجة بالخرافة تجعل شرائح واسعة من السكان يؤمنون بهذه الحقيقة..
هاجس آخر يشغل فئات عريضة من المغاربة وهي الفيضانات، التي تؤدي بحياة العشرات سنويا وتشرد المئات، كما تكبد الدولة خسائر مهمة على مستوى البنى التحتية، الهشة أصلا، ولعل أشهر فيضان ظل موسوما في ذاكرة المغاربة: كارثة صيف أوريكة القاتل شهر غشت سنة 1995 حين أسفرت فيضانات الحوز ووادي أوريكة عن وفاة 240 شخصا، إضافة إلى خسائر مادية كبيرة، وكذا فيضانات شمال المغرب يوم 28 أكتوبر 2008  في مدن طنجة، تطوان والفنيدق، والتي كانت حصيلتها حسب الأرقام الرسمية 28 قتيلا، وآلاف المشردين. إضافة إلى كوارث تازة،  زايوا 2000،  ووجدة، بركان 2008  ومنخفض الغرب 2009.
من جهته، بدأ شبح تسونامي يلوح في الأفق، فصار المغاربة يعيشون هاجس التسونامي بعدما كانوا يعرفونه عبر شاشات التلفزة التي تنقل آثاره المدمرة بسواحل اليابان أو إندونيسيا، إذ ضربت أمواج مد عالية، مجموعة من المدن الساحلية الممتدة على الشريط الساحلي الرابط بين سلا وأكادير، متسببة في خسائر مادية جسيمة وفي حالة من الرعب وسط المواطنين، فبعلو للأمواج بلغ 9 أمتار،  غمرت مياه الأطلسي العديد من الأحياء السكنية والمناطق السياحية المحاذية للشواطئ بسلا والرباط والمحمدية والدار البيضاء والجديدة وآسفي وأكادير»، ففي مدينة سلا  تسببت الأمواج في غمر الطريق العمومية وعدد من الأزقة المحاذية للطريقة الساحلية بحي سيدي موسى، كما تسربت مياه البحر إلى بعض المنازل وأعاقت حركة السير بالنسبة إلى السيارات»، من جهتهم عاش مستخدمو المرافق السياحية بعين الذياب بالدار البيضاء، ليلة رعب حقيقية، إذ فروا إلى مناطق أكثر أمنا في انتظار تراجع الموج، قبل أن  يشرعوا في عد الخسائر التي تسبب فيها المد البحري.
 تتناسل الإشاعات كلما حل وضع غير مألوف بمنطقة معينة، فأخيرا عرفت طنجة هبوب رياح جد قوية أثارت زوبعة من الغبار، تحكي نسيمة، قاطنة بطنجة لـ»المساء» أن «الجميع صار يتحدث عن تسونامي محتمل، لكنني كنت أعلم أنها مجرد إشاعات، ولم يخطر ببالي البتة أن أمرا مماثلا قد يقع». الوجل من الكوارث الطبيعية، لم يعد مقتصرا فقط على الزلازل والفيضانات بل تعداه ليشمل البراكين، إذ يؤكد أحمد، وهو موظف في أحد بنوك الرباط إن أكثر ما يخشاه هو البراكين»التي تزرع في شعورا بالرعب». وبالرغم من أن جل المغاربة يعتقدون أنهم بعيدون، كل البعد، عن البراكين، وأنه لا يفتك إلا بسكان ما وراء البحار،  إلا أن النشاط البركاني موجود بالمغرب، إذ  يمكن أن تنفجر البراكين تحت أقدامنا في أي لحظة.
 نحن الآن في الأطلس المتوسط، وبالضبط في خنيفرة وولماس وأكلموس ومنطقة تيداس، هنا توجد براكين حديثة التكوين، يعود تاريخها إلى 0.2 حتى 5 ملايين سنة، وتضم حمما بركانية مشبعة، البراكين منتشرة، أيضا، على طول الحدود مع الجزائر وفي مرتفعات شرق الريف، وتحديدا في مناطق «حسي الحمر» و» عين الذياب» و»دبدو» و»مريجة» وجبل «كوركو»، المشهور «بحمايته» للمهاجرين السريين إلى حين حلول موعد عبورهم الضفة على مدى سنوات، هذا المخبأ «الآمن «هو في الحقيقة بركان من نوع البراكين الناجمة عن دخول صفيحة أرضية تحت أخرى. 
وتعتبر براكين جزر الكناري، المقابلة للسواحل المغربية، من أخطر البراكين وأنشطها على وجه الأرض، وإن سلمنا من حممها فإن الأقاليم الجنوبية للمملكة، خصوصا سواحلها، مهددة باجتياح أدخنة هذه البراكين لأجوائها، ما يعني أنه سيتمخض عن ذلك اضطراب كبير، نتيجة حدوث اختناقات ووفيات بسبب الدخان الكثيف الذي يتشكّل من غازات سامة، إضافة إلى شل حركة النقل الجوي والبحري والبري في جنوب المغرب، بل وحتى في أرجائه الأخرى.


المستقبل..الخوف من الفشل والموت
كل المخاوف التي تساور المغاربة مبعثها سبب رئيس: الوجل من المستقبل، وقد يكتسب المفهوم معان ومدلولات كثيرة ، منها الخوف من الفشل في الدراسة والفشل في الحصول على شغل والرسوب الدراسي، والخوف من فشل العلاقات العاطفية، ويتحمل المفهوم دلالات ميتافيزيقية منها الرهاب من الموت ومن المرض. يشرح إسماعيل المنقاري، أستاذ علم الاجتماع الخوف من المستقبل بالتأكيد على أن  الحديث عن تخوفا ت المغاربة مرتبط أساسا بمسألة الثقة،  الثقة  في المستقبل، في الإمكانيات الحياتية الذاتية، في السياسة، في القضاء، في التشغيل،... لم يعد الخوف كما كان عند المغاربة في سنوات الرصاص، سنوات القمع ، ...الخوف مطبوع أساسا بالهاجس الاقتصادي أكثر من الأمني والقضائي، باعتبار أن هذين الأخيرين لا يرافقان الإيقاع اليومي للحياة وإن كانا على قدر كبير من الأهمية في عيش المواطنين.  يخاف المغربي اليوم أكثر من المستقبل.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، فالخرافات الشعبية تضفي على الخوف من المستقبل هالة أسطورية تقترن بفناء الكون ونهايته، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستهانة بهذه الأطروحات، لأنها موجودة في المجتمع وتتصل قبل كل شيء برؤى وقناعات دينية. وعليه، المستقبل عند المغاربة غامض وغير مضمون في بلد لا يضمن أي شيء أصلا.


الفوضى واللاستقرار.. الخوف الموروث
المغاربة ككل الشعوب يخافون من الفوضى التي تزعزع الاستقرار العام، ولذلك نلاحظ أن المواطنين المغاربة أنفسهم يسارعون إلى نزع فتيل التشنج، والابتعاد عن التطرف في حالات الغليان الاجتماعي أو السياسي. ولم يعرف المغرب في تاريخه الحديث، أي منذ بداية القرن الماضي حالات انفلات أمني تختلط فيها الأوراق بالكامل، فيصير القتل والنهب والترويع والثأر عنوانا على عدم التحكم، واستئساد العشوائية. وتعتبر الملكية، حسب السوسيولوجيين، ذات قيمة مرجعية في ما يتعلق بالاستقرار بالنسبة للمواطنين، وإن كانت هناك دعوات من أجل تطويرها في اتجاه إصلاحي. ومن بين مطالب المغاربة الاستقرار والديمقراطية كبديل عما تشهده بعض الدول العربية التي طبقت فيها قاعدة الاستقرار أو الديمقراطية، وهو ما جعل خوف المغاربة من الفوضى واللاستقرار يتزايد بعد الربيع الديمقراطي الذي خلف خيبات أمل كبيرة لدى الشعوب العربية.
في الحراك الشعبي الأخير، لاحظ مناضلو حركة عشرين فبراير أنه بالرغم من توافر كل شروط الاحتجاج والنزول إلى الشارع إلأ أن الإقبال على نضالات الحركة لم يصل إلى مستوى الطموحات، في هذا السياق يؤكد محمد الموساوي، عضو بحركة عشرين فبراير بطنجة في تصريح لـ»المساء»» لا شك أن الخوف لعب دوراً مهما في تحجيم الانخراط في الحراك الشعبي، أولا الخوف من «المخزن» كما في ثالوث الخوف الشعبي: «المخزن، النار، الواد»، وهو أيضا خوف رسخته القبضة الأمنية الرهيبة التي اعتمدها الحسن الثاني والبصري في التعامل مع الانتفاضات الشعبية التي عرفها المغرب» مضيفا أنه ثمة خوف آخر ساهم في جعل العديد من المغاربة يحجمون عن الالتحاق بالحراك الشعبي والنزول إلى الشوارع، هو خوف من الفوضى ومن المآل الذي آلت إليه الانتفاضات في بعض دول المنطقة وما نتج عنه من اقتتال دموي، لكن عموما ساهمت حركة 20 فبراير في تكسير جدار الخوف الذي سكن دماغ المغاربة وبتنا نرى بشكل متواصل خروج احتجاجات، أحيانا، لفئات لم تعهد من قبل الخروج إلى الشارع للاحتجاج». ويؤكد الموساوي في المضمار نفسه أنه بقدر ما ساهم الخوف المزدوج كما تحدثت عنه أعلاه في كبح جماح الحراك الشعبي، أيضا ساهم هذا الأخير في تكسير حاجز الخوف، وهذا ما اعترفت به الدولة نفسها من خلال الحديث عن «استرجاع هيبة الدولة»، الذي يعني أولا وأخيراً إعادة تثبيت ركن الخوف من جديد للتحكم في الفضاء العمومي وعدم تركه فضاءً مفتوحا للاحتجاج كما كان قد تكرّس خلال مرحلة قوة حركة 20 فبراير.


إسماعيل المنقاري *:  المغاربة لا يخشون المخزن بل يخافون من المستقبل
غالبا ما ينظر إلى الخوف باعتباره عاطفة سلبية أو إحساسا بالتحقير لأنه يعتبر نقطة ضعف. وهذا الشعور هو جزء من الآليات، التي تكشف درجة القدرة النفسية على استيعاب الحالات الصعبة على التحمل، كما هو الحال مع كل شيء نشعر به على غير العادة. والخوف هو سلسلة من العمليات الكيماوية المعقدة التي تلعب دورها في أجسامنا عندما يهددها خطر ما.
الخوف هوتوقع أو تحسب إصابة مادية أو معنوية ممكنة. نحن نعلم أن الجسم حساس للغاية بسبب احتمال وجود تهديد، وهناك الكثير من الطرق التي تنقل معلومات الخوف إلى الدماغ، وبالتالي ينتاب الشخص شعور بعدم الرضا
عن نفسه في المجتمع. وغالبا ما ينطوي عدم الرضا هذا عن الرغبة في التغيير قد يكون أحد التعبيرات الأساسية عنه الصدام مع واقع الخوف. 
قد تتيسر أحيانا أسباب الفوائد المادية في مجتمع يخلو من المرجعيات الروحية، فتكون هذه الفوائد المادية نقطة تقابل مع غياب وجود شكل من أشكال المثالية التي بدورها قد تتوافق مع الأكثر سطحية، إلى النمطية والثقافية، ومن ثم إلى الأنماط الفكرية المحتملة، والتي قد توجد خارج قائمة المكونات الشخصية للمجتمع. يميل الناس في البلدان الفقيرة أيضا إلى أن تكون «الصلات الاجتماعية» أقوى ليكونوا قادرين على الاعتماد على أصدقائهم وعائلاتهم للمساعدة في حالة حدوث مشاكل.
يتولد الخوف حين يتم تهديد أولويات الحياة عند الفرد، والتي تضع على منصة التتويج: السكن، الدخل، الصحة، والصلات الاجتماعية، وما إلى ذلك.  لكن حين يدرك المواطن أن واقعه لا يمكن أن يقيم توازنا بين «العمل» و»الحياة»، بين «الرضا» عن الواقع و»العلاقات الاجتماعية» يصبح الخوف سيد الموقف، والترقب أهم أشكال التوتر.
إن طرح سؤال الأمن الاجتماعي كفيل بإبراز درجة التخوف التي يمكن أن تلم بالمواطن. هل يمكن للتعليم والصحة مثلا في بلادنا في هذه المرحلة تشكيل نفسية متزنة وبعيدة عن الخوف والترقب والتوتر في مجتمع تطغى فيه الفوارق الاجتماعية؟
الحديث عن تخوفات المغاربة مرتبط أساسا بمسألة الثقة، الثقة في المستقبل، في الإمكانيات الحياتية الذاتية، في السياسة، في القضاء، في التشغيل... لم يعد الخوف كما كان عند المغاربة في سنوات الرصاص، وسنوات القمع. إذ صار الخوف مطبوعا أساسا بالهاجس الاقتصادي أكثر من الأمني والقضائي، باعتبار أن هذين الأخيرين لا يرافقان الإيقاع اليومي للحياة، وإن كانا على قدر كبير من الأهمية في عيش المواطنين. يخاف المغربي اليوم أكثر من الغد، من المستقبل.
هذا الخوف هو ما يدفع المغاربة اليوم الى مغادرة أرض الوطن بحثا عن الطمأنينة على المستقبل ومستقبل الأسرة، وليس خوفا من المخزن كما قد يتبادر إلى الأذهان. لقد تغير المجتمع المغربي اليوم في الحدود التي يعرف أنها لم تعد حدودا تستهدف حياته بقدر ما تستهدف معيشه. ربما انتهت دهاليز السجون كما عرفها المغاربة سنوات الرصاص، لكن بدأت عمليات «حرق» للواقع من أجل «حلم» مر سبرا لأغوار البحر في اتجاه «ضفة السعادة». خوف الأمس هو نفس خوف اليوم، وإن تغيرت سلوكيات هذا الخوف. كلاهما انتقاص من إنسانية الإنسان، وكلاهما يفرض مواجهة قساوة المجهول: بالأمس القريب كان «المخزن» واليوم صار «البحر» لإحياء الأمل في المستقبل. 
هناك إذن فرق كبير بين الشعور بوجود حياة سعيدة والشعور بوجود حياة مليئة بالأمل، وهما منطقان مختلفان. وترتبط السعادة مباشرة «بشروط الحياة الموضوعية»، كما يشرح الباحثون في علم النفس الاجتماعي.
محنة العديد من المواطنين تتجاوز بكثير ما يفكر به مختلف السياسيين. المواطنون يخشون من المستقبل الذي لا يمكن تمييزه ولا رسم ملامحه، إذ يبدو هذا صعبا. الخوف المادي (البطالة، الشعور بالضيق في العمل، تكلفة الطاقة ونقص الأموال...) والمعنوي خاصة (فقدان المرجع، ارتباك القيم، الخوف على مستقبل الأطفال...) هذه المخاوف تؤدي إلى رفض الآخر ورفض الواقع الذي يرفض احتضانه..
الخوف من عدم التوفر على الأسباب المادية يؤدي في نهاية المطاف إلى توليد نوع من حالة الخوف من المستقبل. إن الشباب الحالي يجد صعوبات كثيرة في تبين أحلامه وطموحاته التي تتحول فيما بعد إلى خوف حقيقي.
 * أستاد سوسيولوجيا الإعلام بالمعهد العالي للإعلام والاتصال


الخوف من الفقر
حتى لو كنا نتوفر على عمل يدر دخلا، وعائلة تدعمنا، وسقف يؤوينا، فلاشيء يمكن أن يتغير. الخوف يتعاظم كل وقت وحين. وكثيرون هم أولئك الذين يخافون من السقوط في ردهات الفقر. ما يسمى بالطبقة الوسطى التي تعتبر الدرع الواقي من تجاوز عتبة الفقر هي الأكثر استهدافا بالخوف من المستقبل. وهذا يترجم مخاوف المغاربة من أن الغد قد يلقي بهم في براثن البؤس.
لما كان الحال أن المواطن كان في مواجهة شبه حتمية مع هراوة المخزن، وكانت الأساليب المتبعة  في كبح جماح مطالب هذا المواطن في العيش الكريم، لم يختزل المواطن آليات الخوف في غير هذه المواجهة، وكانت الفترة فترة الغليان الاجتماعي بكل تبعاته السياسية والاقتصادية. أما اليوم فقد انتقل الخوف من خوف على الحياة إلى خوف من الحياة، في الوقت الذي تولد خوف آخر، الخوف من الشارع عند السلطة العمومية. هكذا أصبح الشارع مصدر «الحسابات التشريعية». وهي الحالة الوحيدة التي يمكن اعتبارها باروميترا لقياس درجة التغيير في المجتمع. المجتمع مصدر التشريع، لكنه أيضا مصدر الحسابات السياسية التي تجعله مطية الوصول إلى شرعنة المواقع والأخذ بأساليب النظم الحديثة.
لم يعد الخوف من المخزن خوفا على النفس والمال والولد كما كان منذ ستينيات القرن الماضي، بل أصبح الخوف خوفا من عدم توفر الكفاءة فيمن تؤول إليهم أمور الناس، ومن ثم الخوف من المستقبل وعلى المستقبل. لقد ظلت الساحة العمومية مجالا للتعبير عن التوترات بكل أشكالها، وأدركت السلطة أنها لا تملك، أو لم تعد تملك القدرة على التحكم في الإيقاع اليومي لنبض الشارع. لكنه أدرك أن كل مخاوف الناس يختزلها ويختزنها الشارع بمختلف تعبيرات الارتباك والتوتر والخوف من المستقبل.

عمر بنعياش *:  مخاوف المغاربة تغيرت والآن يـــــخشون مـن فقـدان الخـبز  وغـاز البـوتان
لا بد في البداية من إبداء ملاحظة منهجية أعتبرها أساسية، وهي أنني لا أعرف أية دراسة ميدانية أو  استمزاج للرأي تم بهذا الخصوص في بلادنا. وإذا كانت هناك دراسة أو دراسات قد تمت حول هواجس ومخاوف المغاربة، فأنا شخصيا لا علم لي بها. أقول هذا الكلام لأن صفة الباحث التي نضفيها على أنفسنا ليست سلطة مطلقة نخرج بها على الناس ونفتي بها في أمورهم وشؤونهم بشكل عشوائي، بل أقصى ما يمكن أن يقوم به الباحث هو المساعدة على الفهم والتفسير التي لا تستقيم إلا بالحجة والدليل، وليس بمجرد الكلام أو  بأي شيء آخر، ولذلك أعتبر أن كل ما سأقوله جوابا على سؤالكم، هو مجرد تخمينات تنطلق من رصد ذاتي، ومن الملاحظة المباشرة التي يمكن أن تكون نسبية وغير دقيقة، والتي يمكن أن أصححها أو أتراجع عنها إذا ثبتت لدي مغالاتها أو عدم صحتها، لكنني بالمقابل أعرف أن هناك استطلاعا هاما للرأي حول مواضيع مختلفة من بينها موضوع» المخاوف»، أنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالدوحة برسم سنة 2012-2013، وهو الذي يعرف باستطلاع المؤشر العربي للتنمية. هذا الاستطلاع الذي تم تنفيذه في 14 دولة عربية من بينها المغرب، يهدف إلى الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي نحو مجموعة من الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بما في ذلك اتجاهات الرأي العام نحو قضايا الديمقراطية والمشاركة السياسية والمدنية. ومن بين النتائج الهامة لهذا الاستطلاع أن أكثر من ثلث الرأي العام لديه مخاوف وقلق من الحركات الإسلامية. وتتلخص هذه المخاوف في أن لا تحترم الحركات الإسلامية مبادئ التداول السلمي على السلطة،  وأن تقوم باستخدام الدين لفرض قيود على الحريات الشخصية والثقافية والإبداعية، أو أن تصبح القيّم على تفسير الدين، أو أن تحابي الأكثر تدينا. أما على صعيد الأمن القومي العربي، فقد أفاد 73 في المائة من المستجوبين بأن إسرائيل والولايات المتحدة هما الأكثر تهديدا للأمن القومي العربي.
ما أستخلصه شخصيا من هذا الاستطلاع أن المخاوف التي عبر عنها مستجوبون في بلدا ن عربية أخرى من «التيارات الإسلامية» هي أقل حدة بكثير عندنا بسبب اختلاف الأوضاع والتجارب. وبالفعل فالمغاربة لا يحسون بهذا النوع من المخاوف، خصوصا  وهم يمرون حاليا بتجربة حكم «الإخوان» بشكل سلس وفريد في العالم العربي والإسلامي، طالما أن هناك خطوطا حمراء لا يتجاوزها «الإخوان». كذلك الشأن بالنسبة لأمريكا وإسرائيل التي تقل مخاوفنا منها بحكم البعد الجغرافي عن منطقة الصراع في الشرق الأوسط.
 هذه إذن هي ملاحظتي الأولى، الملاحظة الثانية تتعلق بالسؤال عما نقصده بالمغاربة: هل نقصد بهم عموم سكان المغرب، أم فئات معينة أم سكانا معينين الخ...؟ والغرض من هذا السؤال هو التمييز بين أشكال ودرجات المخاوف عند الناس، بحيث لا يخفى عليكم أن لكل فئة أو مجموعة من السكان هواجسها ومخاوفها الخاصة، لكنني أقترح هنا أن نقف عند ما هو عام ومشترك بين عموم المغاربة.
ففي التجارب التي مر بها المغاربة في التاريخ، كان «المخزن» يشكل أهم مخاوفهم، ثم بدأت حدة هذا الخوف تقل وتخفت خاصة بعد وفاة جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، وتولي جلالة الملك محمد السادس العرش من بعده، وتوسع هامش الحريات والديمقراطية.  كان المغاربة في السابق  يخافون من بطش رجالات السلطة كيفما كانوا، ولكنهم أيضا كانوا يخافون من انعدام الأمن والأمان، ومن هجمات القبائل على بعضها البعض، ومن الأجانب، ومن الجفاف والأوبئة  والجوع... الخ، لكن يظهر اليوم أن بنية «المخاوف» تغيرت، وبدأت تتشكل من جديد في صور وتمظهرات مختلفة.
في الحقيقة إن مصادر الخوف هذه مازالت قائمة في جزء منها فقط، بحيث لم يعد الناس مثلا يخافون بشكل كبير من ممثلي «المخزن» ، بل بدأ المغاربة يميزون بين «المخزن» الوحيد الذي تجسده المؤسسة الملكية، وبين موظفي «المخزن» الذين لا يمثلونه بالضرورة في سلوكياتهم.
كان المغاربة يهابون الملك الحسن الثاني، وأعتقد أنهم مروا بلحظة خوف وقلق حقيقية عند وفاته، لكن سرعان ما هدأت خواطرهم، واطمأنوا إلى الانتقال السلس للسلطة وإلى الإشارات القوية للعهد الجديد، ولا يظهر أن المغاربة ينتابهم اليوم أي قلق أو خوف من هذه الناحية. هذا النوع من المخاوف الكبرى إذن غير موجودة في المغرب، وهنا ربما يجب القول إن الخوف في لحظات قوية من التاريخ يكون عامل إبداع وابتكار للحلول والمواقف، ذلك أن الناس – بصفة عامة- يخافون من المجهول ومن الغريب (كخوف بعضنا من المهاجرين جنوب الصحراء)، ويخافون أن يضطروا إلى تغيير نمط عيشهم وحياتهم بسرعة فجائية، فالاستقرار وضع منتج ومريح، والأمن ضرورة حيوية لحياة الشعوب.
يمكن اختزال مخاوف الإنسان بصفة عامة، سواء أكان مغربيا أو مواطنا في بلد آخر في نوعين اثنين: خوفه على حياته من اعتداءات الغير، وخوفه من الجوع بسبب ندرة أو عدم وجود ما يقتات به لضمان استمراره في العيش، مع ما يتبعهما طبعا من كرامة إنسانية وجودة في الحياة.
 الملاحظة الثالثة هي المتعلقة بالمخاوف كمصطلح أو كمفهوم، وهنا يجب أن نميز بين المخاوف الشخصية والمخاوف الجماعية، وبين أشكال القلق والتوتر العابرة والأشكال المقيمة. مثلا يمكن أن يخاف الناس على أطفالهم عندما يسمعون خبر – أو إشاعة- اختفاء أحد الأطفال، والملاحظ في هذا النوع من المخاوف أنه سرعان ما يتبدد مع الوقت، إذ يميل الناس بصفة عامة إلى نسيان هذه المواضيع من أجل استمرار الحياة. هناك نوع آخر من المخاوف هي التي تتعلق بالموت، وهي مخاوف تصيب جميع الناس إلا في حالات استثنائية. هناك إذن أنواع متعددة من المخاوف تتعلق في مجملها بالحياة الخاصة   للأفراد سواء النفسية أو الاجتماعية. وأشير هنا بصفة خاصة إلى الخوف من «الآخرة» ومن «عذاب وأهوال القبور» و»منكر ونكير»الخ...، بحيث نلاحظ أنه كلما قوي استهلاك المرء لهذه «الأدبيات» كلما اشتدت مخاوفه من الموت. ولعل ما يمكن ملاحظته بهذا الصدد هو تزامن انتشار هذه «الأدبيات» على شكل كتيبات وأقراص مدمجة تقشعر لمشاهدتها الأبدان، مع إقبال متزايد للناس على «المظاهر الدينية»، دون أن يعني ذلك بالضرورة تحولا في أخلاقهم وسلوكياتهم.
الخوف هو أحد الأحاسيس الطبيعية التي تمر بالبشر، وهو شعور قوي ومزعج، وطبعا فإن المغاربة شانهم في ذلك شان جميع شعوب الأرض، تأثروا في الخوف بعوامل بيئية وتجارب تاريخية معينة. إن الخوف من الجوع في زمن الأوبئة والمجاعات التي عرفها المغرب في فترات من تاريخه مثلا هي التي تجعل عددا من الناس ( من الجيل القديم) عندما يصادف كسرة خبز في الطريق، يلتقطونها من الأرض ويقبلونها على أساس أنها نعمة (نادرة) من عند الله عز وجل، ويضعونها في مكان بعيد عن ممشى الراجلين.
وأعتقد أن أحسن من لخص خوف بني الإنسان بصفة عامة هي سورة قريش التي تقول بعد باسم الله الرحمان الرحيم: «لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف». لقد أشار القرآن الكريم هنا إلى نوعين من الخوف: الخوف من انعدام الأمن، والخوف من الجوع، وهما النوعان اللذان رافقا الإنسانية منذ بدء الخليقة إلى اليوم.
وحتى نبقى في حدود السؤال المطروح، يجب ملاحظة أن بنية ونوعية مخاوف المغاربة هي اليوم في طريق التغيير. لقد تغيرت هواجس المغاربة ومخاوفهم، وأتصور أننا لو طرحنا السؤال عليهم اليوم لكان جوابهم يتعلق أساسا بالخوف من فقدان الخبز وغاز البوتان من السوق.....
 طبعا هناك من سيقول بأن المغاربة يخافون أيضا من التشرد، أي من عدم امتلاك ما يصطلحون على تسميته بـ «قبر الحياة». ولعل الدلالة العميقة لامتلاك قبر الحياة هذا هو طلب الستر، وكما لا يخفى على المؤرخين والمحللين الاجتماعيين فإن» ثقافة الستر»هذه لها جذور ضاربة في التاريخ الاجتماعي للمغاربة، هي ما أقترح تسميته بـ «ثقافة التواري» والابتعاد عن الأنظار في حالة العجز والظهور والتباهي في حالة القوة.
 الملاحظة الخامسة هي أن المتتبع للحياة الأوربية، يلاحظ كثرة الإشاعات التي يتم تداولها على نطاق واسع، نتيجة الانتشار القوي لوسائل الاتصال المكتوبة والسمعية البصرية، والتي تخلق أنواعا قوية من الفوبيا الجماعية، ليتضح فيما بعد- وقد لا يتضح- أن الأمر يتعلق بحروب سرية بين شركات الأطعمة وشركات الأدوية ومنتجات أخرى مختلفة.
 أعتقد أن الأمية القرائية ناهيك عن الأمية الأبجدية عندنا تجعل تأثير هذا النوع من المخاوف، خاصة منه ما يتعلق بجانب التغذية والجانب الصحي قليل جدا. هكذا يمكن القول إن ظاهرة الخوف الجماعي على الطريقة المصرية أو التونسية أو على الطريقة الغربية والأمريكية غير موجودة عندنا، وحتى إذا وجدت فهي تبقى بدون تأثير يذكر. وبالفعل فالأمية القرائية تجعلنا في منأى عن التأثر  بثقافة الخوف المنتشرة في أوربا، والتي انتقلت في مرحلة من مراحلها إلى أيديولوجيا، أي أنها انتقلت من ثقافة  الخوف إلى ثقافة التخويف. حدث هذا خاصة  بعدما أن احتل «الإرهاب» مكانة مهمة في الخطاب السياسي الأوربي والأمريكي، ثم بعد ذلك في المخيال الجمعي للشعوب الأوربية وللشعب الأمريكي. ونحن هنا نتذكر العديد من الكتابات التي أججت الخوف من التقدم التكنولوجي وتبعاته المدمرة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الكتاب الشهير للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس «التكنولوجيا والعلم باعتبارهما إيديولوجيا»، وعالم اجتماع ألماني آخر هو «ألريش باك» الذي أصدر بدوره كتابا يصب في الاتجاه نفسه تحت عنوان» «مجتمع المخاطر»، مما جعل عددا من الجمعيات تطالب بحماية البيئة، وبالعودة إلى الطبيعة الأم الخ...
أشير كذلك إلى الصدمة التي أثارها الكتاب الشهير لهتنغتون حول «صدام الحضارات». يجب القول إن هذه الكتابات وكتابات أخرى لم تصلنا ربما أصداؤها تشكل نداء للحرب ودعوة للاستعداد لها: حرب ضد عدو «رهيب» يظهر أحيانا في صفة «إرهابي»إسلامي، وأحيانا في صفة فيروس فتاك أو وباء خطير، أو في صفة ظاهرة طبيعية تهدد سكان الأرض.... ولعل الملاحظ هنا أن حكام هذه الشعوب يسمحون لها بهامش واسع جدا من حرية الرأي والتعبير الديمقراطي، ويشدون وثاقها بثقافة التخويف هذه.
أعود لأؤكد بأن الأمية القرائية وعدم متابعة الغالبية العظمى من أفراد الشعب المغربي لما يجري في المغرب وفي العالم من وقائع وأحداث تجعل «الخوف الجماعي» قليلا. وأعتقد أن مخاوف المغاربة هي عبارة عن مخاوف صغيرة تنحصر في فقدان بعض المواد الغذائية من السوق أو ارتفاع ثمنها. عشنا طبعا خاصة في الأسابيع القليلة الماضية شائعات حول احتمال تعرض المدن الشاطئية المغربية لنوع من «التسونامي»، لكن المغاربة لم يتأثروا بذلك، ولم يتحول خوفهم البسيط إلى «هستيريا جماعية»، بحيث لم نلاحظ سكان الأحياء المتاخمة للشواطئ يغادرون منازلهم أو يهجرونها خوفا من أمواج البحر.
يجب التنبيه إلى أن الكلام الذي أسلفناه ينطبق على عموم المغاربة، أما عندما نتحدث عن «النخبة» فالأمر يختلف، فنحن قد نجد مثلا من يعتبر أن أكبر مخاوفه هي المتعلقة بتراجع قيمة التربية والتكوين، وانعكاسه على الصحة النفسية لأفراد المجتمع وتماسكهم الاجتماعي. هناك أيضا بعض المظاهر الأخرى التي تبعث لدى النخبة على كثير من القلق والخوف، منها مثلا ما يتعلق بتبخيس العمل السياسي والهجوم المتواصل على الأحزاب، والحط من قيمة المسئولين، والتي أدت – بشكل غير مباشر طبعا- إلى عدة حوادث مؤسفة وغير مقبولة، كحادث محاصرة السيد رئيس الحكومة من طرف مجموعة من الشباب أو حادث اقتحام بعض المؤسسات والبنايات العمومية، أو الاعتداء الأخير على أحد أعضاء الحكومة. فإذا كانت الحكومة تهان ويتم الاعتداء عليها وتحاصر وتقتحم مقراتها، فماذا يمكن أن يقول الأستاذ والموظف والشرطي.... عن نفسه؟  هذه أيضا مخاوف حقيقية ولو أنها لم تأخذ بعد ذلك البعد الدرامي المؤسف.
بالإضافة إلى هذا النوع من المخاوف هناك مثلا الخوف الذي بثته الحكومة في موظفي الإدارات العمومية بإعلان عزمها على إصلاح صندوق التقاعد على حساب المنخرط. واعتقد أن هذا الخوف له ما يبرره، فالإنسان المتقاعد عندنا - بصفة عامة -  هو الإنسان الذي ينهي حياته بعدة أمراض كمرض السكري ومضاعفاته الخطيرة  وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والشرايين الخ...بمعنى أنه سيحتاج بشكل متزايد ومرتفع لموارده المالية كاملة لمواجهة أوضاعه الصحية، وبالتالي فالخوف هنا هو الخوف من العجز عن مواجهة الشيخوخة والمرض، وأتصور أنه لو لم تكن منظومتنا الصحية مريضة ومعطوبة هي الأخرى لما أثار موضوع إصلاح صندوق التقاعد كل هذه المخاوف والهواجس التي أصابت شريحة هامة من المواطنين. هذه بصفة عامة بعض الملاحظات السريعة تمت الإجابة فيها  باستعجال على سؤال صحفي سريع


 * أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بالرباط

المساء عدد 2299

Aucun commentaire: